نفحات من الرحمان
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
نفحات من الرحمان
تفتحُ عينيك ـ وأنت بعدُ طفلٌ صغير ـ لترى إبتسامة حانية عذبة ترفرفُ على وجهك .. إنّها إبتسامة أمّك الرحيمة الرفيقة المحبّة لك . وتبدأ مشاعرك بالإحساس بما حولك ، فترى أباً يحدب عليك ، وإخوة يلاطفونك ، وجدّاً أو جدّة يفيضون حناناً عليك . ثمّ تدرجُ في مدارج الحياة فتلتقي أناساً كثيرين يحبّونك ويحترمونك .. تألفهم ويألفونك .. فيهم الأصدقاء وفيهم الزملاء وفيهم الإخوان . وتبلغ مبلغ الرجولة فيهفو قلبك إلى فتاة تتمنّى أن تشاركك الحياة وتكون لك زوجةً مخلصةً أمينة حبيبة مطيعة ، فيكونُ لك ما تريد ، ويجعل الله بينكما مودّة ورحمة ، فيهنأ العيش وترغد الحياة وتصفو الأيام بنعيم القرب والمعاشرة والمشاطرة في الأفراح وفي الأحزان . وتُرزقُ بالبنين وبالبنات فتجدُ في قلبك حبّاً طافحاً ورحمة جارفة تعذقها على كلِّ واحد منهم .. مرّت امرأة ـ ذات يوم ـ من أمام المسجد النبويّ ، وهي تحتضن طفلها الذي شغفها حبّاً ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه : «اُنظروا إلى رحمة هذه المرأة بابنها .. إنّ الله أرحمُ بعباده من الأمّ بوليدها» . ويمرّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً آخر بحمامة تحتضن بيضها برفق وحنوّ مؤمّلة نفسها بفراخ يحومون حولها ، ويفتحون مناقيرهم الصغيرة طلباً للرحمة بهم ، فتلقي في فمّ كلِّ منهم حبّة يختلط طعمها اللذيذ بطعم الحبّ الألذّ .. فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اُنظروا إلى رحمة هذه الحمامة ببيضها .. إنّ رحمة الله بعباده لأشدُّ من رحمتها بفراخها» . هذا إذن عالمٌ أُسس على (الرحمة) وقام عليها . والرحمة تعني العطف والرقّة والخير والنعمة ، وهي لا تفيضُ إلاّ من قلب صاف محبّ . أحببْ غيرَك تكن رحيماً به . وإذا أحبّك كان رحيماً بك . وإذا أحببتما بعضكما فاحت الرحمة وانتشرت .. وتنشِّق الناسُ أريجها . وتسأل : لماذا إذن هذه القسوة أينما ندير وجوهنا .. فقسوةٌ في بعض البيوت .. وقسوة بين بعض الأصدقاء .. وقسوة في بعض الحكام والمسؤولين .. وقسوة بين الأنظمة والدول ؟! إنّ الرحمة إذا نزعت من قلب لم يبق إلاّ الحجارة القاسية ، وفخار الطين البليد ، والأشواك المدبّبة ، والمخالب والأنياب . فالجلاّد ، والظالم ، والمجرم ، والعنيف البليد الإحساس المتحجر العاطفة ، ربّما يجدون لذّتهم في قسوتهم ، فيما يجد المحبّ الحنون الرقيق الرفيق المرهف العاطفة ، النقيّ المشاعر ، لذّته في أن يُحِبُّ ويُحَبُّ ، ويَرحم ويُرحم . أين تجدُ نفسك بين هؤلاء وهؤلاء ؟ فالتصنيف هنا مهمّ، وعليه يتوقف الفرز بين (القساة) و (الرحماء) .. بين مَنْ تجري ينابيع المودّة في قلوبهم ، وبين مَنْ تغلي قلوبهم كغلي الحميم ، حتى إذا دنوت منهم سمعت لها تغيّظاً وزفيراً ! ولكن .. هل الرحمة هي الحب والعطف واللطف والإحسان فقط ؟ فأبوك حينما يشدّد عليك في المراقبة والمحاسبة والكلمات الشديدة المحذِّرة أو المتوعدة ، وحتى حينما يعنّفك ويؤنّبك بأكثر من ذلك ، قد يبدو في نظرك قاسياً . إنّ رحمته بك هي التي تدفعه إلى تأنيبك إذا أخطأت ، أو إذا تماديت في الخطأ . ورحمته بك هي التي تجعله يشدّد في حسابه إذا تراخيت وتقاعست وأهملت واجباتك ومسؤولياتك . رحمتُه بك هي التي تحمله على إسماعك بعض الكلمات الشديدة اللهجة من أجل أن تعي تقصيرك وتصحّح أخطاءك ، وهو لا يعمد إلى هذا الاسلوب مباشرة ، بل ينبّهك ويحذّرك مراراً قبل أن يلجأ إلى اسلوب التعنيف . إنّ الجرّاح الذي يقطع عضواً تالفاً من أعضاء البدن ، أو عضواً يمكن أن يعرّض بقية الأعضاء للخطر ، لهوَ طبيبٌ رحيمٌ بمريضه وليس قاسياً عليه . إنّه يرفق بباقي الجسد مخافة أن يمتدّ الخطرُ إليه . لهذا فهو رحيم حتى ولو استعمل المباضع والسكاكين وأدوات التشريح . وكذلك هي رحمة ربّنا (الرّحمن) (الرّحيم) فحينما يبتلينا بالآلام والمتاعب والامتحانات الكثيرة ، فليس ذلك نقمة منه أو رغبة بالتعدّي علينا ، لأنّ الذي يحتاج إلى الانتقام الضعيف ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً . الإبتلاء هو أيضاً رحمة من الله حتى ولو لم نقدّر آثار تلك الرحمة ونتائجها .. هو رسالة تنبيه وانذار وتذكير ، مثلما هو اكتشاف للمواهب والطاقات والمعادن ، أي أنّ الابتلاء محكّ لفرز الصالح من الطالح ، والقويّ من الضعيف ، والثابت من المنهار . يقول تعالى : (أحسب الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين )( ) . وهو أعلم بما فينا قبل وبعد اختبارنا ، لكنّه فرزٌ وغربلة نحتاجها نحنُ البشر في حياتنا حتى لا تضيع ولا تختلط علينا المقاييس ويتساوى المحسنُ والمسيء . (الرّحمن) (الرّحيم) : من صفات الله وأسمائه الحسنى أ نّه (الرّحمن) (الرّحيم) . و (الرّحمن) كما في اللغة ، هو كثير الرحمة . و (الرّحيم) كما في اللغة أيضاً ، دائم الرحمة . ولو كانت رحمة الله كثيرة ولم تكن دائمة لكان الخطر يتهددنا في بعض الأوقات ، فقد تكون كثيرة في وقت وغائبة في وقت . لكنّنا إذا أدركنا أنّها كثيرة ودائمة وملازمة لنا في كلّ وقت وكلّ مكان وكلّ موقف شعرنا بالراحة والاطمئنان ، كمن يحمل الماءَ معه دائماً ، لن يشعر بالخوف من الموت عطشاً . فحتى لو كنّا مثل يونس (عليه السلام) في بطن الحوت ، وتذكّرنا رحمة الله الكثيرة والدائمة ، فإنّها ستدركنا . (وذا النُّون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه )( ) أي لن نبخل عليه برحمتنا ولا نضيِّق عليه بشيء منها . (فنجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين )( ) الذين يؤمنون برحمة الله . هي رحمة ممتدّة .. في الدنيا .. وفي القبر .. وفي الآخرة ، فلقد كتب الله تعالى على نفسه الرحمة ، وحسبنا أملاً ورجاءً بهذه الرحمة الواسعة الدائمة ، أنّ الله كتبها على نفسه ، أي جعلها صفة ملازمة لا تنفكّ عن ذاته . نعم ، هو شديد العقاب ، لكنّ رحمته سبقت غضبه ، وانّ مغفرته وحلمه أوسع من غضبه وانتقامه وسخطه . يقول أحد الأدباء(( )) : «لقد عشتُ طوال عمري خائفاً من الله ، أخيراً .. اكتشفتُ أ نّه ملاذي» ! ومن التربية الخاطئة أن يركِّز الآباء والمربّون على صفة (شديد العقاب) فقط ، ويرسمون لله تعالى وجهاً متجهّماً ، قاسي الملامح ، حادّ النظرات ينظر للانسان شزراً ، بل ويتطاير الشرر من عينيه ، وليس له إلاّ رغبة واحدة هي الثأر والانتقام(( )) . ولا نريد أن نقلّل من عذاب الله وعقابه ، فكما أنّ الجنّة واسعة (عرضها السّموات والأرض )( ) فكذلك جهنم واسعة ، حتى أنّ ربّها الذي سجّر نارها لغضبه يخاطبها (هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد )( ) .
nadia70- عضو مميز
- رقم العضوية : 18
عدد المساهمات : 190
نقاط : 351
تاريخ التسجيل : 21/06/2011
رد: نفحات من الرحمان
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ريحانة الدار- مديرة المنتدي
- رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 1622
نقاط : 2873
تاريخ التسجيل : 06/03/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى